فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ذكر ما مضى من قصة يوسف عليه الصلاة والسلام من التوراة:
قال في أواخر السفر الثاني منها: كان يوسف بن يعقوب ابن سبع عشرة سنه، وكان يرعى الغنم مع إخوته، وكان إسرائيل يحب يوسف أكثر من حبه إخوته، لأنه ولد على كبر سنه، فاتخذ له قميصًا ذا كمين، فرأى إخوته أن والدهم أشد حبًا له منهم، فأبغضوه ولم يستطيعوا أن يكلموه بالسلام، فرأى رؤيا قصها على إخوته فقال لهم: اسمعوا هذه الرؤيا التي رأيت، رأيت كأنا نحزم حزمًا من الزرع في الزراعة، فإذا حزمتي قد انتصبت وقامت، وإذا حزمكم قد أحاطت بها تسجد لها، قال له إخوته: أترى تملكنا وتتسلط علينا؟ وازدادوا له بغضًا لرؤياه وكلامه، فرأى رؤيا أخرى فقال: إني رأيت رؤيا أخرى، رأيت كأن الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا يسجدون لي، فقصها على أبيه وإخوته، فزجره أبوه وقال له: ما هذه الرؤيا؟ هل آتيك أنا وأمك وإخوتك فنسجد لك على الأرض؟ فحسده إخوته، وكان أبوه يحفظ هذه الأقاويل.
وانطلق إخوة يوسف يرعون غنمهم في نابلس فقال إسرائيل ليوسف: هو ذا إخوتك يرعون في نابلس، هلم أرسلك إليهم! فقال: هأنذا! فقال أبوه: انطلق فانظر كيف إخوتك وكيف الغنم؟ وائتني بالخبر، فأرسله يعقوب عليه الصلاة والسلام من قاع حبرون، فأتى إلى نابلس، فوجده رجل وهو يطوف في الحقل فسأله الرجل وقال: ما الذي تطلب في الحقل؟ فقال أطلب إخوتي، دلني عليهم أين يرعون؟ قال له الرجل: قد ارتحلوا من هاهنا، وسمعتهم يقولون: ننطلق إلى دوثان، فتبع يوسف إخوته فوجدهم بدوثان، فرأوه من بعيد، ومن قبل أن يقترب إليهم هموا بقتله، فقال بعضهم لبعض: هو ذا حالم الأحلام قد جاء، تعالوا نقتله ونطرحه في بعض الجباب، ونقول: قد افترسه سبع خبيث، فننظر ما يكون من أحلامه! فسمع روبيل فأنقذه من أيديهم وقال لهم: لا تقتلوا نفسًا، ولا تسفكوا دمًا، بل ألقوه في هذا الجب الذي في البرية، ولا تمدوا أيديكم إليه، وأراد أن ينجيه من أيديهم ويرده إلى أبيه.
فلما أتى يوسف إخوته خلعوا عنه القميص ذا الكمين الذي لابِسَه، وأخذوه فطرحوه في الجب فارغًا لا ماء فيه، فجلسوا يأكلون خبزًا فمدوا أبصارهم فرأوا فإذا رفقة من العرب مقبلة من جلعاد- وفي نسخة: من الجرش- وكانت إبلهم موقرة سمنًا ولبنًا وبطمًا، وكانوا معتمدين إلى مصر فقال يهوذا لإخوته: ما متعتنا بقتل أخينا وسفك دمه؟ تعالوا نبيعه من العرب، ولا نبسط أيدينا إليه لأنه أخونا: لحمنا ودمنا، فأطاعه إخوته، فمر بهم قوم تجار مدينيون، فأصعدوا يوسف من الجب وباعوه من الأعراب بعشرين درهمًا، فأتوا به إلى مصر.
فرجع روبيل إلى الجب فإذا ليس فيه يوسف، فشق ثيابه ورجع إلى إخوته وقال لهم: أين الغلام؟ إلى أين أذهب أنا الآن؟ فأخذوا قميص يوسف عليه الصلاة والسلام فذبحوا عتودًا من المعز ولوّثوا القميص بدمه وأرسلوا به مع من أتى به أباهم وقالوا: وجدنا هذا، أثبته هل هو قميص ابنك أم لا؟ فعرفه وقال: القميص قميص ابني، سبع خبيث افترس ابني يوسف افتراسًا، فحزن على ابنه أيامًا كثيرة، فقام جميع بنيه وبناته ليعزوه فأبى أن يقبل العزاء وقال: أنزل إلى القبر وأنا حزين على يوسف، فبكى عليه أبوه.
وباع المدينيون يوسف من قوطيفر الأمير صاحب شرطة فرعون- انتهى، وفيه ما يخالف ظاهرة القرآن ويمكن تأويله- والله أعلم.
ولما أخبر تعالى يوسف عما يريد بيوسف عليه الصلاة والسلام بما ختمه بالإخبارعن قدرته، أتبعه الإعلام بإيجاد ذلك الفعل دلالة على تمام القدرة وشمول العلم فقال: {ولما بلغ أشده} أي مجتمع قواه: {آتيناه} أي بعظمتنا: {حكمًا} أي نبوة أو ملكة يكف بها النفس عن هواها، من حكمة الفرس، فلا يقول ولا يفعل إلا أمرًا فصلًا تدعو إليه الحكمة؛ قال الرماني: والأصل في الحكم تبيين ما يشهد به الدليل، لأن الدليل حكمة من أجل أنه يقود إلى المعرفة: {وعلمًا} أي تبيينًا للشيء على ما هو عليه جزاء له لأنه محسن: {وكذلك} أي ومثل ذلك الجزاء الذي جزيناه به: {نجزي المحسنين} أي العريقين في الإحسان كلهم الذين رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أسرى به فأعلاه ما لم يعل غيره؛ وعن الحسن: من أحسن عبادة الله في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله، والأشد: كمال القوة، وهو جمع شدة عند سيبوبه مثل نعمة وأنعم، وقال غيره: جمع شد؛ قال ابن فارس في المجمل: وبعضهم يقول: لا واحد لها، ويقال: واحدها شد- انتهى.
قيل: وهذا هو القياس نحو ضب وأضب، وصك وأصك، وحظ وأحظ، وضر وأضر، وشر وأشر قال الرماني: قال الشاعر:
هل غير أن كثر الأشرّ وأهلكت ** حرب الملوك أكاثر الأموال

انتهى.
واختلفوا في حد الأشد فقيل: هو من الحلم، وروي عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أنه من عشرين سنة، وروى غير ذلك، والمادة تدور على الصعوبة، وهي ضد الرخاوة، ويلزمها القوة، فالشد على العدو منها، وشد الحبل وغيره: أحكم فتله، والشديد والمتشدد: البخيل- لصعوبة البذل عليه، والشدة: صعوبة الزمان، وشد النهار: ارتفاعه، وهو قوته، وشددت فلانًا: قويت يده ودبرت أمره، وأشد القوم- إذا كانت دوابهم شدادًا فهم مشدون ضد مضعفين. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{هيت لك} بضم التاء وفتح الهاء: ابن كثير: {هيت} بكسر الهاء وفتح التاء: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان والرازي عن هشام مثله ولكن بالهمز، الحلواني عن هشام مثل هذا لكن بضم التاء، النجاري عن هشام. والباقون: {هيت لك} بفتحتين. وسكون الياء: {المخلصين} بفتح اللام حيث كان: أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف: {ربي أحسن} بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن كثير: {من قبل} و: {من دبر} بالاختلاس: عباس: {قد شغفها} مدغمًا: أبو عمرو وعلي وحمزة وخلف وهشام: {وقالت اخرج} بكسر التاء: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم. الآخرون بالضم للإتباع. {حاشا لله} وما بعده في الحالين بالألف: أبو عمرو: {ربي السجن} بفتح السين على أنه مصدر: يعقوب. الباقون. بالكسر.

.الوقوف:

{ولدًا} ط {في الأرض} ز بناء على أن الواو مقحمة واللام متعلقة ب: {مكنا} أو هي عطف على محذوف قبله ليتمكن ولنعلمه، والأظهر أنها تتعلق بمحذوف بعده أي ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك التمكن: {الأحاديث} ط {لا يعلمون} o {وعلمًا} ط {المحسنين} o {هيت لك} ط {الظالمون} o {همت به} ز قد قيل بناء على أن قوله: {وهم} جواب {لولا} وليس بصحيح لأن جواب {لولا} لا يتقدم عليه وإنما جوابه محذوف وهو لحقق ما هم به كذا. قال السجاوندي: وأقول لو وقف للفرق بين الهمين لم يبعد: {وهم بها} ج: {برهان ربه} ط {والفحشاء} ط {المخلصين} o {لدى الباب} o {أليم} o {عن نفسي} لم يذكر الأئمة عليه وقفًا ولعل الوقف عليه حسن كيلا يظن عطف: {وشهد} على: {راودتني} أو على جملة: {هي راودتني}. {من أهلها} ج على تقدير وقال إن كان: {من الكاذبين} o {الصادقين} o {من كيدكن} ط {عظيم} o {عن هذا} سكتة للعدول عن مخاطب إلى مخاطب: {لذنبك} ج لاحتمال التعليل: {الخاطئين} o {عن نفسه} ج لأن {قد} لتحسين الابتداء مع اتحاد القائل: {حبًا} ط {مبين} o {عليهن} ج: {بشرًا} ط {كريم} o {فيه} ط {فاستعصم} ط لاحتمال القسم: {الصاغرين} o {إليه} ج للشرط مع الواو: {الجاهلين} o {كيدهن} ط {العليم} o {حين} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه هناك. وقيل إن الذي اشتراه قطفير أو إطفير وهو العزيز الذي كان يلي خزائن مصر والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف عليه السلام فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله الملك والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة.
وقيل كان الملك في أيامه فرعوه موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} [غافر: 34] وقيل فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، وقيل اشتراه العزيز بعشرين دينارًا، وفيل أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه ما يساويه في الوزن من المسك والورق والحرير فابتاعه قطفير بذلك الثمن.
وقالوا: اسم تلك المرأة زليخا، وقيل راعيل.
واعلم أن شيئًا من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن، ولم يثبت أيضًا في خبر صحيح وتفسير كتاب الله تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات، فالأليق بالعاقل أن يحترز من ذكرها.
المسألة الثانية:
قوله: {أَكْرِمِى مَثْوَاهُ} أي منزله ومقامه عندك من قولك ثويت بالمكان إذا أقمت به، ومصدره الثواء والمعنى: اجعلي منزله عندك كريمًا حسنًا مرضيًا بدليل قوله: {إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ} وقال المحققون: أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه، يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال والتعظيم وهو كما يقال: سلام الله على المجلس العالي، ولما أمرها بإكرام مثواه علل ذلك بأن قال: {عسى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي يقوم بإصلاح مهماتنا، أو نتخذه ولدًا، لأنه كان لا يولد له ولد، وكان حصورًا.
ثم قال تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرض} أي كما أنعمنا عليه بالسلامة من الجب مكناه بأن عطفنا عليه قلب العزيز، حتى توصل بذلك إلى أن صار متمكنًا من الأمر والنهي في أرض مصر.
واعلم أن الكمالات الحقيقية ليست إلا القدرة والعلم وأنه سبحانه لما حاول إعلاء شأن يوسف ذكره بهذين الوصفين، أما تكميله في صفة القدرة والمكنة فإليه الإشارة بقوله: {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرض} وأما تكميله في صفة العلم، فإليه الإشارة بقوله: {وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث} وقد تقدم تفسير هذه الكلمة.
واعلم أنا ذكرنا أنه عليه السلام لما ألقى في الجب قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا} [يوسف: 15] وذلك يدل ظاهرًا على أنه تعالى أوحى إليه في ذلك الوقت.
وعندنا الإرهاص جائز، فلا يبعد أن يقال: إن ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت ما كان لأجل بعثته إلى الخلق، بل لأجل تقوية قلبه وإزالة الحزن عن صدره ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليه السلام، ثم إنه تعالى قال ههنا: {وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} والمراد منه إرساله إلى الخلق بتبليغ التكاليف، ودعوة الخلق إلى الدين الحق، ويحتمل أيضًا أن يقال: إن ذلك الوحي الأول كان لأجل الرسالة والنبوة ويحمل قوله: {وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} على أنه تعالى أوحى إليه بزيادات ودرجات يصير بها كل يوم أعلى حالًا مما كان قبله وقال ابن مسعود: أشد النار فراسة ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا، والمرأة لما رأت موسى، فقالت: {إِحْدَاهُمَا يا أبت استجره} [القصص: 26] وأبو بكر حين استخلف عمر.
ثم قال تعالى: {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} وفيه وجهان: الأول: غالب على أمر نفسه لأنه فعال لما يريد لا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه، والثاني: والله غالب على أمر يوسف، يعني أن انتظام أموره كان إلهيًا، وما كان بسعيه وإخوته أرادوا به كل سوء ومكروه والله أراد به الخير، فكان كما أراد الله تعالى ودبر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر كله بيد الله.
واعلم أن من تأمل في أحوال الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أن الأمر كله لله، وأن قضاء الله غالب.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
وجه النظم أن يقال: بين تعالى أن إخوته لما أساؤا إليه، ثم إنه صبر على تلك الشدائد والمحن مكنه الله تعالى في الاْرض، ثم لما بلغ أشده آتاه الله الحكم والعلم، والمقصود بيان أن جميع ما فاز به من النعم كان كالجزاء على صبره على تلك المحن، ومن الناس من قال: إن النبوة جزاء على الأعمال الحسنة، ومنهم من قال: إن من اجتهد وصبر على بلاء الله تعالى وشكر نعماء الله تعالى وجد منصب الرسالة.
واحتجوا على صحة قولهم: بأنه تعالى لما ذكر صبر يوسف على تلك المحن ذكر أنه أعطاه النبوة والرسالة.
ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} وهذا يدل على أن كل من أتى بالطاعات الحسنة التي أتى بها يوسف، فإن الله يعطيه تلك المناصب، وهذا بعيد لاتفاق العلماء على أن النبوة غير مكتسبة.
واعلم أن من قال: إن يوسف ما كان رسولًا ولا نبيًا ألبتة، وإنما كان عبدًا أطاع الله تعالى فأحسن الله إليه، وهذا القول باطل بالإجماع.
وقال الحسن: إنه كان نبيًا من الوقت الذي قال الله تعالى في حقه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا} [يوسف: 15] وما كان رسولًا، ثم إنه صار رسولًا من هذا الوقت أعني قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22] ومنهم من قال: إنه كان رسولًا من الوقت الذي ألقى في غيابة الجب.
المسألة الثانية:
قال أبو عبيدة تقول العرب بلغ فلان أشده إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان وهذا اللفظ يستعمل في الواحد والجمع يقال بلغ أشده وبلغوا أشدهم، وقد ذكرنا تفسير الأشد في سورة الأنعام عند قوله: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] وأما التفسير فروى ابن جرير عن مجاهد عن ابن عباس، ولما بلغ أشده قال ثلاثًا وثلاثين سنة، وأقول هذه الرواية شديدة الانطباق على القوانين الطبية وذلك لأن الأطباء قالوا إن الإنسان يحدث في أول الأمر ويتزايد كل يوم شيئًا فشيئًا إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال، ثم يأخذ في التراجع والانتقاص إلى أن لا يبقى منه شيء، فكانت حالته شبيهة بحال القمر، فإنه يظهر هلالًا ضعيفًا ثم لا يزال يزداد إلى أن يصير بدرًا تامًا، ثم يتراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق.
إذا عرفت هذا فنقول: مدة دور القمر ثمانية وعشرون يومًا وكسر فإذا جعلت هذه الدورة أربعة أقسام، كان كل قسم منها سبعة أيام، فلا جرم رتبوا أحوال الأبدان على الأسابيع فالإنسان إذا ولد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب إلى أن يتم له سبع سنين، ثم إذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم والذكاء والقوة ثم لا يزال في الترقي إلى أن يتم له أربع عشرة سنة.